علاقة الإعراب بالمعنى دراسة تطبيقية على بعض آيات من الذکر الحکيم

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

الأستاذ المساعد بقسم الإعداد اللغوي الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة

10.12816/0042459

المستخلص

 الحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
لا شک أن العرب قد جعلوا الإعراب أساسا مهما في التوجيه المعنوي للنص وبيان الأسرار التي توحي لها الکلمة ذات التقلبات الإعرابية.
وأساس ظاهرة الإعراب في العربية, وجود علاقات نحوية ومعنوية بين الألفاظ, والهيئة والعلة والاستفهام والتعجب والاهتمام والتنبيه والرغبة في التمکين, أو التشويق, أو التخصيص, ونجد الإعراب خاضعا لمؤثر لفظي له علاقة بالترکيب وهذا البحث يسلط الضوء على علاقة المعنى بالحرکات الإعرابية فبتغيرها يتغير المعنى.
ولقد اتفق علماء العربية إلا من شذ منهم على أهمية لإعراب، وأن لعلاماته دلالات معينة، وأغراضا معنوية، أبرزهم: الخليل، وسيبويه، وابن فارس،  وابن جني ، والمبرد، وابن السراج، والسيوطي، وتبعهم کثير.
 (ولقد عبروا عن هذه الظاهرة بأساليب متنوعة تنطق جميعا بحقيقة واحدة .ولعل أوفى خلاصة لتلک الآراء قول ابن فارس :"فأما الاعراب فبه تميز  المعاني ويوقف على اغراض المتکلمين .وذلک ان قائلا أو قال "ما احسن زيد "أو" ما احسن زيد "أو" ما احسن زيد "أبان بالإعراب عن المعنى الذي أراده ") ينظر: الصاحبي ص161
وأحببت أن أدخل في أعماق هذا الموضوع و أدلي بدلوي لعلي أسقى بعذب سلسبيل
وأسأل ربي أن يوفقني وينفع بما کتبت.
فهذا البحث يتکون من مقدمة ويسلط الضوء على معاني الإعراب اللغوية والاصلاحية وعلاقة الإعراب بالمعنى, ثم الدراسة التطبيقية على آيات من القرآن الکريم وأخيرا خاتمة  هذا البحث.

الموضوعات الرئيسية


 

               کلیة التربیة

        کلیة معتمدة من الهیئة القومیة لضمان جودة التعلیم

        إدارة: البحوث والنشر العلمی ( المجلة العلمیة)

    =======

 

 

 

علاقة  الإعراب بالمعنى

دراسة تطبیقیة على بعض آیات من الذکر الحکیم

 

 

 

إعــــداد

د/ محمد بن شتیوی الجهنی

الأستاذ المساعد بقسم الإعداد اللغوی

الجامعة الاسلامیة بالمدینة المنورة

 

 

}         المجلد الثالث والثلاثین– العدد الخامس– یولیو 2017م  {

http://www.aun.edu.eg/faculty_education/arabic

المقدمة

 الحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

لا شک أن العرب قد جعلوا الإعراب أساسا مهما فی التوجیه المعنوی للنص وبیان الأسرار التی توحی لها الکلمة ذات التقلبات الإعرابیة.

وأساس ظاهرة الإعراب فی العربیة, وجود علاقات نحویة ومعنویة بین الألفاظ, والهیئة والعلة والاستفهام والتعجب والاهتمام والتنبیه والرغبة فی التمکین, أو التشویق, أو التخصیص, ونجد الإعراب خاضعا لمؤثر لفظی له علاقة بالترکیب وهذا البحث یسلط الضوء على علاقة المعنى بالحرکات الإعرابیة فبتغیرها یتغیر المعنى.

ولقد اتفق علماء العربیة إلا من شذ منهم على أهمیة لإعراب، وأن لعلاماته دلالات معینة، وأغراضا معنویة، أبرزهم: الخلیل، وسیبویه، وابن فارس،  وابن جنی ، والمبرد، وابن السراج، والسیوطی، وتبعهم کثیر.

 (ولقد عبروا عن هذه الظاهرة بأسالیب متنوعة تنطق جمیعا بحقیقة واحدة .ولعل أوفى خلاصة لتلک الآراء قول ابن فارس :"فأما الاعراب فبه تمیز  المعانی ویوقف على اغراض المتکلمین .وذلک ان قائلا أو قال "ما احسن زید "أو" ما احسن زید "أو" ما احسن زید "أبان بالإعراب عن المعنى الذی أراده ") ینظر: الصاحبی ص161

وأحببت أن أدخل فی أعماق هذا الموضوع و أدلی بدلوی لعلی أسقى بعذب سلسبیل

وأسأل ربی أن یوفقنی وینفع بما کتبت.

فهذا البحث یتکون من مقدمة ویسلط الضوء على معانی الإعراب اللغویة والاصلاحیة وعلاقة الإعراب بالمعنى, ثم الدراسة التطبیقیة على آیات من القرآن الکریم وأخیرا خاتمة  هذا البحث.

الإعراب

هو أحد خصائص العربیة وسمة بارزة من سماتها تناوله علماء اللغة قدیما وحدیثا مستعرضین جوانبه المختلفة.

ویُعد من أبرز الظواهر فی العربیة وله معنیان لغوی :   

وهو مصدر الفعل الرباعی أعرب,  وأهم معنى له هو البیان والإفصاح والإیضاح ((الإعراب وهو الإبانة یقال: أعرب عنه لسانه وعرب أی أبان وأفصح)) ([1])

والإعراب فی الاصطلاح هو: الأثر الذی یجلبه العامل على الکلمات المعربة,         وهو( الإبانة عن المعانی بالألفاظ, ألا ترى أنک إذا سمعت أکرم سعید أباه, وشکر سعیدا أبوه, علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول) ([2])

قال الزجاج: ( إنّ النحویین رأوا فی أواخر الأسماء والأفعال حرکات تدل على المعانی وتبین عنها سموها إعرابا أی بیاناً, وکان البیان بها یکون کما یسمى الشیء إذا کان یشبهه, أو مجاورا له, ویسمى النحو إعراباً والإعراب نحواً سماعا, لأن الغرض طلب     علم واحد) ([3]).

والإعراب أقوى عناصر اللغة وأبرز خصائصها, بل سر جمالها وأضحت قوانینه هی العاصمة من الخطأ, یقول ابن قتیبة : (ولها الإعراب الذی جعله الله وشیا لکلامها، وحلیة لنظامها، وفارقا فی بعض الأحوال بین الکلامین المتکافئین، والمعنیین المختلفین کالفاعل والمفعول، لا یفرّق بینهما، إذا تساوت حالاهما فی إمکان الفعل أن یکون لکلّ واحد منهما-   إلا بالإعراب).

ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخی بالتنوین، وقال آخر: هذا قاتل أخی بالإضافة- لدّل التنوین على أنه لم یقتله، ودلّ حذف التنوین على أنه قد قتله) ([4]).

صاحب الکتاب یحدد مجاری الکلم فی العربیة فیقول: (هذا باب مجاری أواخر الکلم من العربیة وهی تجری على ثمانیة مجار: على النصب والجر والرفع والجزم, والفتح والضم والکسر, وهذه المجاری الثمانیةُ یَجمعهنّ فی اللفظ أربعةُ أضرب: فالنصبُ والفتح فی اللفظ ضربٌ واحد، والجرّ والکسر فیه ضرب واحد، وکذلک الرفع والضمّ، والجزم والوقف.

وإنّما ذکرتُ لک ثمانیة مجار لأ فُرقَ بین ما یدخله ضربٌ من هذه الأربعة لما یُحِدثُ فیه العامل - ولیس شیء منها إلا وهو یزول عنه - وبین ما یُبْنَى علیه الحرفُ بناءً لا یزول عنه لغیر شیء أحدثَ ذلک فیه من العوامل، التی لکلّ منها ضربٌ من اللفظ فی الحرف، وذلک الحرفُ حرف الإعراب) ([5]).

وعدّه ابن فهارس: (من العلوم الجلیلة التی خصت بها العرب الذی هو الفرق بین المعانی المتکافئة فی اللفظ, وبه یعرف الخبر الذی هو أصل الکلام, ولولاه ما میّز فاعل من مفعول ولا مضاف من منعوت ولا تعجب من استفهام) ([6])

ویراه الزمخشری : (هو اختلاف آخر الکلمة باختلاف العوامل لفظاً أو تقدیراً) ([7]), وذکر الاختلاف فی الآخر إما بالحرکات وإما بالحروف, وذکر أن ما لا یظهر الإعراب فی لفظه قدّر فی محله, وبه قال ابن عصفور وابن هشام([8]).

علاقة الإعراب بالمعنى:

إن للإعراب أثرا فی تأدیة المعنى , وکشفه وإزالة اللبس والغموض, کم أن للإعراب میزة کبیرة تتمثل فی إعطاء الکلمة حریة فی الترکیب من حیث التقدیم والتأخیر دون أن تفقد الکلمة وظیفتها. وهذه المیزة تمیزت بها اللغة العربیة على غیرها أنها لغة معربة بینما اللغات غیر المعربة تلتزم الکلمة فیها رتبة واحدة وبذلک تفقد قسطا کبیراً من المرونة التی یمکن أن یتیحها لها وجود الإعراب.

ابن الجنی یرى أن الإعراب یبن عن المعانی بالألفاظ دون أن یحدث لبس حیث یقول: (هو الإبانة عن المعانی بالألفاظ ألا ترى أنک إذا سمعت: أکرم سعید أباه وشکر سعیدًا أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول ولو کان الکلام شرجًا(نوعا) واحدًا لاستبهم أحدهما من صاحبه) ([9]).

      ویقول الأنباری: ( الإعراب إنما دخل الکلام فی أصل المعنى) ([10]) لأن استیضاح المعنى ودلالة الجملة علیه لا تتم إلاّ عن طریقه, وإذا کان علم الدلالة قد أصبح علما مستقلا له خواصه وأسسه فإن الإعراب یبقى الأساس الأول له, لأنّ (( الحرکة الإعرابیة – فی حالات- لها دور لا یقل فی أهمیته عن دور أی حرف من حروف الکلمة فی الوصول إلى المعنى الدلالی للجملة) ([11]).

       إنّ الإعراب وسیلة من وسائل إظهار المعنى وإیضاحه, یراد بها الإفصاح عما یقصد إلیه المتکلم, وقد یفهم منه أنه مظهر من مظاهر الدّقة فی البیان؛ لأنّ ترکیب الألفاظ فی        حد ذاته یکون فی أکثر اللغات دلالة کافیة على المعنى, وإیضاحاً مغنیاً لمضمون الکلام   وقصد المتکلم.

       قال أبو بکر الزبیدی: (ولم تزل العرب تنطق على سجیَّتها فی صدر إسلامها وماضی جاهلیتها؛ حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأدیان، فدخل الناس فیه أفواجًا، وأقبلوا إلیه أرسالًا، واجتمعت فیه الألسنة المتفرقة، واللغات المختلفة، ففشا الفساد فی اللغة والعربیة، واستبان منه فی الإعراب الذی هو حَلْیها، والموضِّح لمعانیها) ([12])

وجاء عن الزجاجی قوله:(إن الأسماء لما کانت تعتورها المعانی وتکون فاعلة ومفعولة ومضافاً إلیها, ولم یکن فی صورها وأبنیتها أدلة على هذه المعانی, جُعلت حرکات الإعراب فیها تنبئ عن هذه المعانی) ([13]),فکان الإعراب رمزاً صوتیاً یؤدی إلى غایة معنویة یریدها ویبغیها المتکلم, ویرکن إلیه فی التعبیر عن أغراض فی الکلام ما کان لها أن تظهر لولاه, وهذا الأمر بیّنه إبراهیم مصطفى بقوله: (وجب أن ندرس علامات الإعراب على أنها دوال على معانی, وأن نبحث فی ثنایا الکلام عمّا تشیر إلیه کل علامة منها) ([14]).

ثلاث حالات هی الرفع والنصب والجر التی تعبّر عن هذه المعانی وذلک (( إن الإعراب عبارة عن معنى یحصل بالحرکات أو الحروف ... ثم أنهم لما وجدوا هذه الحرکات قد أتت دالة على معان وصار اختلافها علما لاختلاف المعانی کالفاعلیة والمفعولیة, والإضافة         جعلوا لها فی هذا الحد أسماء مفردة... فالرفع إذاً اسم الضمة المختصة بحال معلومة      ودلالة مخصوصة , وکذا (النصب) و(الجر) اسمان للفتحة والکسرة الدالتین على المعنیین المخصوصین) ([15]).

فالأصل فی الإعراب أن یکون للإبانة عن المعانی, فإنه إذا کانت الجملة غفلا من الإعراب احتملت معانی عدّة, فإن أعربت تعین معناها ((یدلک على ذلک إنک لو قلت: ما أحسن زیدا لکنت متعجباً, ولو قلت ما أحسنُ زید, لکنت مستفهماً عن أی شیء منه حسن, فلو لم تعرب فی هذه المواضع لالتبس

الدراسة التطبیقیة:

  فی قوله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِیمَ (6) صِرَاطَ الَّذِینَ أَنْعَمْتَ عَلَیْهِمْ غَیْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَیْهِمْ وَلَا الضَّالِّینَ (7)) ]سورة: الفاتحة, الآیة: ٦ – ٧[. أعربت (غیر) بدلا من (الذین أنعمت علیهم) على معنى أن المنعم هم الذین سلموا من غضب الله والضلال أو صفة على معنى أنهم جمعوا بین النعمة المطلقة وهی نعمة الإیمان وبین السلامة من غضب الله".

فقد ربط ربطا قویا بین الإیمان والعمل, فجاء جمعه بین الإیمان والعمل فی تخریجه النحوی على البدل المطابق محققا الربط بین نعمة الإیمان کاعتقاد إسلامی ونعمة الإسلام کأفعال إسلامیة.

  قوله تعالى: ((وَزُلْزِلُوا حَتَّى یَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِینَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ(214)) ]سورة: البقرة, الآیة: ٢١٤ [قرئت (حتى یقول) بالرفع والنصب, (فالنصب على إضمار- أن – لأن (حتى) إذا دخلت على الفعل المستقبل وانتصب الفعل بعدها کان لها معنیان:

أحدهما: إلى أن

والثانی: بمعنى کی.

فالأول قولک: سرت حتى ادخلها, أی: إلى أن أدخلها, فالسیر والدخول قد وقعا معاً.

ومثال الثانی: أطع الله حتى یدخلک الجنة, أی: کی یدخلک الجنة, والآیة من الضرب الأول.

والرفع قراءة نافع والمعنى الماضی, وکان ما قبل – حتى – سببا لما بعدها , کقولک: سرت حتى أدخلها, حتى دخلتها, فالسیر سبب الدخول, وکذلک فی الآیة: الزلزلة سبب          لقول الرسول صلى الله علیه وسلم([16]). قیل فی نصب کلمة (تقاة) فی قوله تعالى :              ((إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً(28)) ]سورة: آل عمران, الآیة: ٢٨[  ثلاثة أوجه مبنیة على تفسیره:

فإن کانت بمعنى الاتقاء فهی مصدر کقوله تعالى: ((أَنْبَتَکُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17)) ]سورة: نوح, الآیة: ١٧[وإن کان بمعنى المفعول أی: أمرا یجب اتقاؤه فهی نصب على المفعول به. وإن کانت جمعا ککرام ورماة, فهی نصب على الحال.

وفی قوله تعالى: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ لِأَبِیهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّی أَرَاکَ وَقَوْمَکَ فِی ضَلَالٍ مُبِینٍ(74)) ]سورة: الأنعام, الآیة:٧٤[(آزر) منصوبة لأنه معمولة اتخذ أصناما على تقدیر یا أبتی اتخذ آزر أصناما آلهة.

فذکر ابن کثیر – رحمه الله – أنه قول بعید فی اللغة لأن ما بعد الاستفهام  لا یعمل فیما قبله لأنه له الصدارة فی الکلام, وقال لأن آزر تقرأ بالفتح لأنه علم أعجمی لا ینصرف وهو بدل من قوله لأبیه أو عطف بیان([17])

وفی قوله تعالى:((هُدًى لِلْمُتَّقِینَ(2) الَّذِینَ(3)) ]سورة: البقرة, الآیة: ٢– ٣[قیل یجوز أن یکون ( الذین) تابعا ومقطوعا إلى النصب بإضمار أعنی أو أمدح وإلى الرفع بإضمار هو واما أن یکون منقطعا عما قبله مرفوعا على ابتداء وخبره أولئک على هدى([18])

وقد خُطئ الزمخشری فی قوله تعالى:((مَلِکِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3))]سورة: الناس, الآیة: ٢ – ٣[انهما عطف بیان والصحیح أنهما نعتان لاشتراط الاشتقاق فی النعت والجمود فی عطف البیان([19]).

قوله تعالى: ((وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4)) ]سورة: المسد, الآیة: ٤[

    لفظ حمالة قرئ بالرفع والنصب مع الإضافة([20]) ووردت قراءة عن عیاض بالنصب مع التنوین( حمالةً للحطب) فتفسیرها على قراءة الرفع أن الله تعالى أخبر عن امرأة أبی لهب بهذا الوصف وهو حمل الحطب الذی فسر على الحقیقة بحمل حزم الحطب والشوک الذی کانت ترمیه فی طریق النبی صلى الله علیه وسلم وعلى المجاز بالمشی بالنمیمة ورمی الفتن بین الناس.

وتفسیرها على قراءة النصب بغیر تنوین أن هذه المرأة مذمومة بهذه الصفة         التی اشتهرت بها, فهی لا للإخبار عن صفتها وإنما ذکرت لشتمها وذمها, قال القرطبی:         ( کأنها اشتهرت بذلک فجاءت الصفة للذم لا للتخصیص) ([21])

ومع التنوین  تکون حالا والمراد بها الاستقبال" لأنه ورد فی التفسیر أنها تحمل یوم القیامة حزمة من حطب هو حقیقة" ([22]).

قوله تعالى: ((قَالَ الَّذِینَ اسْتَکْبَرُوا إِنَّا کُلٌّ فِیهَا(48)) ]غافر:٤٨[قرئ (کل) بالرفع والنصب وحملت قراءة الرفع على الخبر بجعل (کل فیها) جملة خبریة–إن-أو بدلا منه لأنه ضمیر المتکلم یجوز إبدال الاسم الظاهر منه إذا کان دالاً على الإحاطة والشمول, ویبدو لی أن العموم فی قراءة الرفع أوضح منه فی قراءة النصب([23]).

فی قوله تعالى:((أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا(12)) ]الکهف :١٢[ قیل فی (أحصى) أنه فعل تفضیل والمنصوب تمییز وهو باطل لأن الأمد لیس محصیاً بل محصىً وشرط التمییز المنصوب بعد (افعل) کونه فاعلا فی المعنى, والصواب أنه فعل وأمدا  مفعول به مثل       (( وأحصى کل شیء عدداً))]الجن28[([24])

لو قرئت((إِنَّمَا یَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(28))]فاطر: ٢٨ [أی: برفع لفظ الجلالة ونصب العلماء لفسد المعنى تماماً وأدى إلى خلل فی العقیدة إذ کیف یخشى الله القوی العزیز الجبار عباده الضعاف الأذلاء؟ فالضبط الصحیح نصب لفظ الجلالة بالفتح على أنه مفعول به مقدم, ورفع العلماء بالضم على أنه فاعل مؤخر ویکون المعنى الصحیح أن أشد العباد خشیةً لله تعالى هم العلماء العاملون حقاً ([25]).

        قوله تعالى:((أَنَّ اللَّهَ بَرِیءٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ وَرَسُولُهُ(3)) ]التوبة: ٣ [لو قرئت ورسوله بکسر اللام أی بعطف رسوله على المشرکین لفسد المعنى تماما, فیکون المعنى الفاسد أن الله بریء من المشرکین وبریء من رسوله کذلک.

        وسبب ذلک الفساد هو الضبط غیر الصحیح ولکن الضبط الصحیح هو : ورسولُه" بضم اللام على ابتداء بعد الاستئناف فیکون المعنى الصحیح " أن الله بریء من المشرکین ورسولُه بریء من المشرکین کذلک"([26]).

قال تعالى: ((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِیمُ بَنِیهِ وَیَعْقُوبُ(132))]البقرة: ١٣٢[

       فالعطف هنا یوقع القارئ فی حیرة لا ینقذه منها إلاّ الإعراب فهو لا یدری أیعقوب معطوف على إبراهیم؟ فیکون المعنى ووصى بها یعقوب بنیه أسوة بإبراهیم أم معطوف على بنیه فیکون المعنى ووصى بها إبراهیم بنیه ووصى بها یعقوب فی جملة بنیه أیضا.

قال تعالى: ((یَالَیْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُکَذِّبَ بِآَیَاتِ رَبِّنَا(27)) ]الأنعام: ٢٧[

فقرئ فلا نکذبُ بالرفع على معنى یالیتنا نرد ویالیتنا لا نکذب, وقرئ ولا نکذبَ بالنصب على المعنى لیتنا یکون لنا عود إلى الحیاة یصاحبه التصدیق والإیمان.

((یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأَیْدِیَکُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِکُمْ وَأَرْجُلَکُمْ إِلَى الْکَعْبَیْنِ(6))]المائدة : ٦[ ورد فی الآیة قراءتان لقوله (وأرجلکم) قراءة بجر اللام وقراءة أخرى بنصبها. فاحتج بقراءة الجر (أرجلکم) بأنها معطوفة على قوله ( رؤوسکم) المجرورة بالباء فیکون المسح على الرجلین کالمسح على الرأس.

واحتج لقراءة النصب (أرجلکم) بأنها معطوفة على (وجوهکم) المنصوبة ب(اغسلوا) فیکون الواجب الغسل کالوجه.

احتجاج الفریقین:

قراءة الجر فی (أرجلکم) تقتضی العطف على ((رؤوسکم)) فأصبح الواجب المسح على الأرجل.

قراءة النصب أقوى ثبوتا وهی تقتضی العطف على (وجوهکم) فأصبح الواجب غسل الأرجل, أما قراءة الجر فیمکن أن یکون الجر فیها عطفا على الجوار, فجرت الأرجل لمجاورتها الرؤوس فی اللفظ([27]) وقد ورد عن العرب إعطاء الشیء حکم الشیء إذا جاوره کقوله تعالى: ((یَطُوفُ عَلَیْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَکْوَابٍ وَأَبَارِیقَ وَکَأْسٍ مِنْ مَعِینٍ (18) لَا یُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا یُنْزِفُونَ (19) وَفَاکِهَةٍ مِمَّا یَتَخَیَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَیْرٍ مِمَّا یَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِینٌ(22)) ]الواقعة :١٧– ٢٢[ فقد قرئت (الحور) بالجر لفظا لمجاورتها – کأس- مع أنها معطوفة فی المعنى على– (ولدان) لأن المعنى أن الحور یطفن على أهل الجنة الخاصین بهن, ولیس معناه أن الولدان یطوفون بهن([28])

إن الجر على المجاورة یکون مع أمن اللبس, ولا یؤمن اللبس هنا؛ إذ یمکن أن تکون معطوفة على الرؤوس([29])

لیس فی الآیة ما یدعو إلى اللبس لوجود – إلى- الدالة على الغایة فی قوله           (إلى الکعبین) لأن المسح لم یحدد بخلاف الغسل , قال الزمخشری: (فجیء بالغایة إماطة لظن من یظن أنها ممسوحة لأن المسح لم تضرب له غایة فی الشریعة) ([30]) ویجوز أن تکون الواو فی قراءة الجر بمعنى – مع- وهذا یقوی کون الأرجل ممسوحة لأن المعنى وامسحوا برؤوسکم مع أرجلکم ([31])

قیل إن کانت للمعیة فإن ما بعدها یکون مفعولا معه, والمفعول معه مع فعل,  والأرجل هنا لا یفعل معها الفعل إنما یقع علیها([32]).

قیل إننا  نسلم بتواتر قراءة النصب ولکنها یمکن أن تکون معطوفة على محل (رؤوسکم) لأنّ محلها النصب على أساس أن الجار والمجرور فی قوة المفعول به, فحینئذٍ تکون الأرجل ممسوحة لا مغسولة.

قیل إنّ العطف على المحل جائز, ولکن العطف على اللفظ أقوى من العطف على المحل, فحیث یمکن العطف على اللفظ لا یعطف على المحل , واذا سلمتم بقراءة النصب فإنّ عطف الأرجل على الوجوه أقوى من عطفها على محل الرؤوس فتکون الأرجل مغسولة کالوجه لا ممسوحة.

قال العکبری: (الأول – أی العطف على الوجوه – أقوى لأن العطف على اللفظ أقوى من العطف على الموضع).

        أنه لو سلم بعطف الأرجل على الرؤوس لأمکن أن یراد بالمسح الغسل؛ إذ یقال لغة (( مسحت یدی بالماء إذا غسلتها, وتمسحت بالماء إذا اغتسلت)) ([33])

ویمکن الجمع بین القراءتین بفعل النبی صلى الله علیه وسلم, الذی کان یغسل رجلیه إذا کانت ظاهرة, ویمسحها إذا کانت مغطاة بخف أو جورب قد لبسهما على طهارةً. وهو      (( من العرب  الخلص الذین یفهمون وجوه العطف فی اللسان العربی)) ([34]).

قرأ الجمهور([35]) (زیَّنَ) مبنیا للفاعل ونصب قتل مضافا إلى أولادهم ورفع شرکاؤهم فاعلا بزیّن وإعراب هذه القراءة واضح, وقرأت فرقة([36]) (زَیَّن) مبنیّاً للمفعول  قتل مرفوعا مضافا إلى أولادهم شرکاؤهم مرفوعا على إضمار فعل أی زیّنه شرکاؤهم هکذا فاعلاً بالمصدر أی قتل أولادهم شرکاؤهم هکذا خرّجه سیبویه([37]) أو فاعلا بالمصدر أی قتل أولادهم شرکاؤهم کما تقول: حُبِّب لی رکوب الفرس زید هکذا خرّجه قطربٌ, فعلى توجیه سیبویه الشرکاء مزیّنون لا قاتلون کما ذلک فی القراءة الأولى, وعلى توجیه قطربٍ([38]) الشرکاء القاتلون. وذلک أنهم لمّا کانوا مزیّنین القتل جُعلوا هم القاتلین وإن لم یکونوا مباشری القتل, وقرأت فرقة کذلک إلاّ أنهم خفضوا شرکائهم وعلى هذا الشرکاء هم الموءودون لأنهم شرکاء فی النسب والمواریث, أو لأنهم قسیمو أنفسهم وأبعاد منها وقرأ ابن عامر: کذلک إلاّ أنه نصب أولادهم وجر شرکائهم فصل بین المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهی مسألة مختلف فی جوازها, فجمهور البصریین یمنعونها متقدموهم ومتأخروهم ولا یجیزون ذلک إلاّ فی ضرورة الشعر, وبعض النحویین أجازها وهو الصحیح لوجودها فی هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربی الصّریح المحض ابن عامر الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان قبل أن یظهر اللّحن فی لسان العرب فی عدّة أبیات وذلک أنّه أضاف الفعل إلى الفاعل وهو الشرکاء ثم فصل بین المضاف والمضاف إلیه بالمفعول.

      رد کثیر من علماء اللغة على منکری الفصل بین المتضایفین ذکر هذه المسألة([39]) الأنباری فی کتابه " الإنصاف فی مسائل الخلاف" ومما جاء فیه قوله :( ذهب الکوفیون إلى أنه یجوزالفصل بین المضاف والمضاف إلیه بغیر الظرف([40]) وحرف الخفض لضرورة الشعر. وذهب البصریون إلى أنه لا یجوز ذلک بغیرهما....) وقد حرر ابن هشام مسألة الفصل بین المتضایفین وأثبت ما لا یدع مجالاً للشک وجود ذلک فی لغة العرب فی کتابه "أوضح المسالک"([41]) قال رحمه الله: (فصل: زعم کثیر من النحویین: أنه لا یفصل بین المتضایفین إلا فی الشعر؛ والحق أن مسائل الفصل سبع؛ منها ثلاث جائزة فی السعة, وأربع جائزة للضرورة, أما الثلاث الجائزة فی السعة فهی:

1)       أن یکون المضاف مصدرا والمضاف إلیه فاعله، والفاصل إماّ:

أ‌-         مفعول المضاف کقراءة ابن عامر (وَکَذَلِکَ زَیَّنَ لِکَثِیرٍ مِنَ الْمُشْرِکِینَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَکَاؤُهُمْ)(137)]الأنعام: ١٣٧[ والتقدیر قتل شرکائِهم أولادَهم, ففصل بالمفعول بین المضاف والمضاف إلیه لأن المضاف مصدر والمصدر شبیه بالفعل.

وقال الشاعر:

فسُقناهم سَوق البُغَاثَ الأجادل.

وسلک المتنبّی([42]) هذه الطریقة عندما قال یمدح طاهر بن الحسین العلوی:

حملت إلیه من لسانی حدیقةً....  سقاها الحجى سقی الریاض السحائِبِ

والتقدیر: سقی السحائب الریاض, بإضافة السقی إلیها؛ ففصل بین المضاف والمضاف إلیه بالمفعول.

 نکتفی بما ذکر ویمکن الرجوع إلى ذلک فی أوضح المسالک([43]).

وردت ]الصابئون[ منصوبة وهی ظاهرة  الإعراب وواحدة جاءت مرفوعة بالواو

فعند قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِینَ آَمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ (69)) ]المائدة: ٦٩[ فأهل العلم من أهل الاختصاص قد ذکروا فی إعراب کلمة }الصابئون{ وجوها إعرابیة عدّة, تکشف عن عظمة القرآن وبلاغته اللا محدودة فی تنویع المعانی مع تنوع الإعراب.

وهذا ضرْب من بیان القُرآن وإعجازه یُدْرکه من نال حظًّا من العلم والبصیرة، وتعالَوا الآن نعرِض باختِصار لبعض هذه الوجوه:

1-  أنَّ ﴿ الصابئون ﴾ هنا مبتدأ، وخبرُه محذوف تقدیره "کذلک"، والنیَّة به التَّأخیر عمَّا فی حیِّز "إنَّ" مِن اسمِها وخبرها.

فیکون معنى الکلام على هذا الوجه: إنَّ الذین آمنوا والَّذین هادوا والنَّصارى حکمُهم کذا، والصَّابئون کذلک.

ولهذا الوجْه شاهد ذکرَه سیبویه، هو قول الشَّاعر:

وَإِلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُمْ ♦♦♦ بُغَاةٌ مَا بَقِینَا فِی شِقَاقِ

أیْ: فاعلموا أنَّا بغاة وأنتم کذلک.

فإن قیل: فما فائدةُ هذا التقدیم والتَّأخیر؟

       فالإجابة کما قال الزمخشری: "فائدتُه التَّنبیه على أنَّ الصَّابئین یتاب علیهم إن صحَّ منهم الإیمان والعمل الصَّالح، فما الظَّنُّ بغیرهم؛ وذلک أنَّ الصَّابئین أبینُ هؤلاء المعدودین ضلالاً وأشدُّهم غیًّا، وما سُمّوا صابئین إلاَّ لأنَّهم صبَأوا عن الأدْیان کلها؛ أی: خرجوا ([44])

       فالواو هنا استِئْنافیة، والعطف عطف جُمل، لا عطف مُفردات، فالجملة الاسمیَّة المکوَّنة من ﴿ الصَّابئون ﴾ والخبر المحذوف - وتقدیره: کذلک - معطوفة على جُملة: ﴿ إنَّ الَّذین آمنوا ﴾.وبالمناسبة: هذا رأی سیبویه([45]) .

2-  وهو أن نقول: إنَّ خبر "إنَّ" محذوف، وحذْفُ خبرِ "إنَّ" یردُ فی الکلام الفصیح کثیرًا      کما ذکر سیبویه فی الکتاب، وقد دلَّ على الخبر ما ذُکِر بعده من قوله - عزَّ وجلَّ -: (( فَلَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ ))]المائدة: 69]، ویکون قوله: (( وَالَّذِینَ هَادُوا ))، عطفَ جملة على جملة، فیکون ﴿ الذین ﴾ مبتدأ، و﴿ الصابئون ﴾ معطوف على المبتدأ، فیکون حقُّه الرفع؛ ولذلک جاء بالواو، وهذا الوجْه رجَّحه الطَّ ابن عاشور فی تفسیره([46]).

3-  أن تکون الواو هنا لعطف المفردات، و﴿ الصابئون ﴾ معطوف، ولکنَّه لیس معطوفًا على اسم "إنَّ"، ولکنَّه معطوف على موضع "إنَّ" واسمها، وهو موضع رفع للابتداء([47]) وهذا رأْی الکسائی والفرَّاء من کبار علماء النَّحو([48]).

4 - أن تکون کلمة: ﴿ الصابئون ﴾ معطوفة على الضَّمیر المرفوع فی "هادوا"، وبذلک تکون مرفوعة، وهذا القول منقولٌ عن الکسائی أیضًا([49]).

 5- أنَّ ﴿ الصَّابئون ﴾ منصوب، ولکنَّه جاء على لغة بلحارث بن کعب الَّذین یجعلون جمع المذکَّر السَّالم بالواو، والمثنَّى بالألف، رفعًا ونصبًا وجرًّا. ([50])

6- أنَّ "إنَّ" هنا لیستِ النَّاسخة؛ ولکنَّها بمعنى "نَعَم" الجوابیَّة، ولا یکون لها عمل حینئذٍ، فیکون ما بعدها مرفوعًا على أنَّه مبتدأ، وتکون ﴿ الصابئون ﴾ معطوفة على المبتدأ، فیکون حقُّها الرفع([51])

7-  أن یُجعل النُّون هو حرف الإعراب، وهذا القول ذکره العکْبری وقال: "أجازه بعض النحْویین، والقیاس لا یدفعه"([52]).

       وقد ذکر الکرمانی کلاما نفیساً عن تکرّر هذه الآیة فی ثلاثةِ مواضع فی القرآن، حیث قال: "قولُه ((إِنَّ الَّذِینَ آَمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِینَ(62))]البقرة: ٦٢[  فی البقرة، وفی الحج: ﴿ وَالصَّابِئِینَ وَالنَّصَارَى ﴾،وقال فی المائدة: ﴿ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ﴾؛  لأنَّ النَّصارى مقدَّمون على الصَّابئین فی الرتبة؛ لأنَّهم أهل کتاب، فقدَّمهم فی "البقرة"، والصابئون مقدَّمون على النَّصارى فی الزَّمان؛ لأنَّهم کانوا قبلهم فقدَّمهم فی "الحجِّ"، وراعى فی المائدة بین المعنیین فقدَّمهم فی اللَّفظ وأخَّرهم فی التَّقدیر؛ لأنَّ تقدیره: والصابئون کذلک"([53])

      وتوضیح ذلک أنَّ الصَّابئین یُقدَّمون على النَّصارى من الناحیة التاریخیة الزمانیَّة؛ لأنَّهم کانوا قبلهم، والنَّصارى کأهل کتاب هم أفضل من الصَّابئین فی مکانتِهم ورتبتهم؛ لأنَّ الصَّابئین أشدُّ کفرًا من النَّصارى؛ ولذلک فإنَّ النَّصارى یقدَّمون من هذه الناحیة.

         وآیة البقرة راعت المکانة والرُّتبة فقدَّمت النَّصارى فی الذِّکْر: ((إِنَّ الَّذِینَ آَمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِینَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ(62)) ]البقرة: ٦٢[

     أمَّا سورة الحجّ، فقد راعت النَّاحیة الزَّمانیَّة والتَّاریخیة، فقدَّمت الصَّابئین على النَّصارى فی الذِّکْر: ((إِنَّ الَّذِینَ آَمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِینَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ(62)) ]البقرة: ٦٢[

        وفی سورة المائدة جاء قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِینَ آَمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْیَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلَا هُمْ یَحْزَنُونَ))(69)  ]المائدة: ٦٩ [، فراعى النَّاحیتَین معًا: حیث قدَّم الصابئین من حیث اللفظ فذُکِروا أوَّلاً، وإن کانوا قد أُخِّروا  من حیث التَّقدیر؛ لأنَّه حین رُفعت (الصَّابئون) صارت مبتدأ خبرُه محذوف تقدیره (کذلک)، وکأنَّه قال: إنَّ الذین آمنوا والذین هادوا والنَّصارى حکمهم کذا، والصَّابئون کذلک، کما وضَّحْنا فی الوجْه الإعرابی الأوَّل، وبذلک یکون قد راعى النَّاحیة الزمانیَّة فقدَّم الصَّابئین فی ذکرهم باللَّفظ، وراعى ناحیة الرتبة والمکانة فأخَّرهم فی تقدیر المعنى.

 

 

الخاتمة

الحمد لله الذی تتم بحمده الصالحات والصلاة والسلام على نبینا الأمین الذی نطق بلسان عربی مبین.

الإعراب هو الإبانة والإفصاح فی اللغة، وهو الأثر الذی یجلبه العامل فی الاصطلاح.

والحرکة الإعرابیة تؤدی وظیفة نحویة تدل فیه الحرکة على معنى تضیفه الکلمة الى الجملة عند رفعها أو نصبها أو جرها.

الإعراب والمعنى صنوان متصلان لا یمکن فصلها, فالإعراب یعرب عن المعانی والمعانی تنبئ عن الإعراب . والقرآن العظیم نزل بلسان عربی مبین وفی إعرابه وبیانه ومعانیه ودلالاته ما یشفی ویکفی فی الرد على المشکین   .

  وعلماؤنا القدامى رحمهم الله  أدرکوا ذلک وقد اتضح ذلک من کلامهم الذی أوردته فی ثنایا البحث. وکذلک یتضح فی دراساتهم اللغویة والنحویة والشرعیة.

ویظهر للباحث أن الغرض من الإعراب هو الإبانة عن المعانی ،والسعة فی التعبیر ، والدقة فی المعنى ،وله أثر کبیر فی تفسیر دلالة الکلمات فبی الجملة ودلالة الجمل فی ثنایا الکلام ،   ارتباطا وثیقا ، فلولا الإعراب لما فهمت المعانی التی تدل علیها الکلمات.

 

 

 

 

 

 



([1]) لسان العرب لابن منظور  (711ه), دار لسان العرب, بیروت مادة (عرب), وینظر: الإیضاح فی علل النحو للزجاج (337ه), تحقیق د. مازن المبارک, دار النفائس ط3, 1979م:91.

([2]) الخصائص لابن جنی, ( ت392ه), تحقیق: محمد علی النجار, دار الهدى للطباعة, ط2, بیروت.

([3]) الإیضاح فی علل النحو:91.

([4]) تأویل مشکل القرآن, لابن قتیبة (ت276ه), تحقیق: أحمد صقر, دار التراث, ط2, القاهرة, 1973م: 1.

([5]) الکتاب, لسیبویه, تحقیق: محمد عبد السلام هارون, مکتبة الخنجی, القاهرة,د. ت 1/13.

([6]) الصاحبی فی فقه اللغة, لابن فارس تحقیق: مصطفى الشویمی, مؤسسة بدران للطباعة, بیروت 1963م: 77.

([7]) الأنموذج فی اللغة للزمخشری, 1/83.

([8]) المقرب لابن عصفور 1/47.

([9]) الخصائص لابن جنی 1/36-53, تحقیق: هنداوی دار الکتب- بیروت .

([10]) الإنصاف فی مسائل الخلاف بین النحویین للأنباری, إحیاء التراث ص20.

([11]) نحو اللغة وتراکیبها: خلیل عمایرة ص160.

([12]) طبقات النحویین واللغویین: للزبیدی تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهیم, دار المعارف , مصر 1973م: 11.

([13]) الإیضاح فی علل النحو:69.

([14]) إحیاء النحو, إبراهیم مصطفى, مطبعة لجنة التألیف والترجمة, القاهرة, 1959م: 49.

([15]) المقتصد فی شرح الإیضاح: عبد القادر الجرجانی(471ه) تحقیق: کاظم بحر المرجان, دار الرشید –بغداد- 1982م 1/101-102.

([16]) کشف المشکلات وإیضاح المعضلات فی إعراب القرآن وعلل القراءات: للباقولی 1/276-277.

([17]) تفسیر القرآن العظیم لابن کثیر 3/53.

([18]) جامع الجوامع, للطبری 1/64.

([19]) الاتقان 2/228.

([20]) الموضح فی وجوه القراءات وعللها 3/1409-1410.

([21]) الجامع لأحکام القرآن للقرطبی 20/240.

([22]) الدر المصون 6/586.

([23]) الکشاف للزمخشری 4/175, وفتح القدیر للشوکانی 4/705-706.

([24]) الاتقان 2/202.

([25]) انظر: البحر المحیط بالتفسیر لأبی حیان الأندلسی 9/31.

([26]) البحر المحیط5/367.

([27]) إعراب القرآن للنحاس 1/485, تحقیق: زهیر زاهد ط1, بغداد.

([28]) مغنی اللبیب, لابن هشام, 2/192 ط الحلبی.

([29]) روح المعانی فی تفسیر القرآن العظیم للألوسی 2/260.

([30]) الکشاف للزمخشری 1/406.

([31]) روح المعانی 2/261.

([32]) أثر الدلالة النحویة واللغویة فی استنباط الأحکام من آیات القرآن ص161- عمان- الأردن عبد القادر اسعدی

([33]) التبیان فی إعراب القرآن للعکبری, 1/423

([34]) أثر الدلالة النحویة واللغویةص168.

([35]) الکشاف للزمخشری 2/349, وجامع البیان للقرطبی 12/137, والبحر المحیط 4/656, والدر المصون 4/695.

([36]) المرجع نفسه والتسهیل 161.

([37]) الکتاب لسیبویه 1/90-92.

([38]) الاتقان فی مسائل الخلاف المسألة 60. والتسهیل 161, الکتاب 2/349-350, التحریر والتنویر 8/105, والبحر المحیط 4/657-658.

([39]) انظر: البحر المحیط 4/656 وما بعدها

([40]) الإنصاف فی مسائل الخلاف المسألة 60.

([41]) أوضح المسالک 3/177 وما بعدها.

([42]) دیوانه ص9 رقم39.

([43]) 3/177 وما بعدها

([44]) تفسیر الکشاف, للزمخشری, ص302.

([45]) انظر: إعراب القرآن وبیانه, 2/269.

([46]) التحریر والتنویر: 4/269.

([47]) وهو ما یسمَّى فی النَّحو بالعطف على المحلّ، ولتقریب المعنى نعطی مثالاً: "إنَّ محمدًا قادم وأحمد"، نعتبر "إنَّ" واسمها (إن محمدًا) وکأنَّها کلمة واحدة، فلو جاءت فی أوَّل الجملة فستکون فی محلِّ رفع مبتدأ، وما یعطف علیها - مثل کلمة أحمد - یکون مرفوعًا  أیضًا؛ لأنه معطوف على محل "إنَّ" واسمها.

([48]) إعراب القرآن الکریم وبیانه: (2 /270)، روح المعانی (4 /295)

([49]) روح المعانی (4 /295).

([50]) مشکل إعراب القرآن، ص: 211، التبیان فی إعراب القرآن: 1 /222.

([51]) روح المعانی: 4 /295.

([52]) التبیان فی إعراب القرآن: 1 /222.

([53]) البرهان فی توجیه متشابه القرآن لما فیه من الحجة والبیان، للکرمانی، ص: 75.